
أفكار المسيري مازالت سلاحًا لكل من يريد مواجهة المزاعم الصهيونية ودحضها
كتب- سيد خميس
ما هو الفرق بين اليهودي والإسرائيلي والصهيوني؟ سؤال وُجّه إلينا كطلبة في الأسبوع الأول من الدراسة بقسم اللغة العبرية بكلية الآداب جامعة عين شمس، وطُلب مننا إجراء بحث صغير عن المصطلحات الثلاث لتطوير مداركنا البحثية، وبعد انتهاء المحاضرة ذهبنا متدافعين نحو مكتبة الكلية محاولين العثور عن مصادر نجد فيها ضلتنا، ووسط أرفف متراصة بالكثير من المراجع والمصادر وهدوء يستلزمه المكان الجلل، ظلت عيني تنقب بين العناوين الكثيرة على مؤلفٍ انجز به مهمتي إلى أن وقعت على رف مرتفع يزدان بثمان مجلدات معنونة بـ"اليهود واليهودية والصهيونية" فلمع بريقها فرحا بالعثور على منقذي لإنجاز هذا البحث. نعم إنها موسوعة الدكتور عبدالوهاب المسيري، ومن هنا بدأت الرحلة مع مفكرنا المتبحر في دراسة الحركة الصهيونية.
عثرت في موسوعة الدكتور المسيري على أجوبة شافية على السؤال، لأبدأ في صياغة بحثي الأول في الكلية، ولكن شدني جدا أسلوب الموسوعة وترتيبها وبساطة الشرح والتحليل والتفسير وتفنيدها لكل صغيرة وكبيرة عن اليهود وعن إسرائيل، هذا الكيان الذي كان يشعل المنطقة بسبب الانتفاضة الثانية للفلسطينيين، التي تزامنت مع اختياري لدراسة اللغة العبرية كمدخل للتخصص في الإسرائيليات، وكانت الدافع الرئيس لكتابة قسم اللغة العبرية وآدابها في استمارة رغبات تنسيق كلية الآداب.
أصبحت موسوعة الدكتور المسيري هي الملجأ الأول لي في كل بحث أُكلف به، فهي غنية بمعلومات عن كل تفصيلة تخص إسرائيل، ففي مادة تاريخ اليهود أجد فيها ضالتي، وفي مادة الفكر الديني اليهودي أجد ضالتي، وفي مادة نظم الحركة الصهيونية أجدها أيضا حاضرة بمادة وافرة، وفي مواد الأدب العبري بمختلف عصوره (القديم والوسيط والحديث) أجد الموسوعة خير من يعطيك المعلومات الأولية كمدخل للدراسة، وكان السؤال الذي يقفز دائما في مخيلتي، من هو هذا الرجل؟ وكيف ومتى أنجز هذه الموسوعة؟ ولماذا قرر أن يفني عمره في البحث والتنقيب عن هذا الموضوع؟
شغفي بمعرفة الدكتور المسيري عن قرب دفعني لقراءة كل مؤلفاته التي أتيحت أمامي، ولكن لم يكن ذلك كافيا، فبداخلي رغبة قوية أن ألقاه وجها لوجه، فظللت أبحث عن كل نشاطاته وأتواجد في أي مكان يمكنني أن أراه فيه، إلى أن جاء معرض القاهرة الدولي للكتاب وعلمت أنه من ضمن الندوات التثقيفية التي ينظمها المعرض ندوة للدكتور المسيري، فطرت فرحا، وعزمت على أن لا أبدد تلك الفرصة السانحة أمامي للجلوس أمام الرجل الذي يجيب من خلال مؤلفاته عن معظم أسئلة التخصص الذي أدرسه، ترقبت موعد الندوة، وفي اليوم المحدد لم يغفل لي جفنا، وتأنقت في ملابسي وذهبت للقائه، فوجدت رجلا يملك كاريزما ورؤية تفسيرية وتحليلية حول أمور شتى، طريقته في العرض وإيصال المعلومة لا يضاهيه فيها أحد، غير متكلف في ملابسه، متواضع لدرجة لا يمكن وصفها.
حرصت أن أكون في الصفوف الأولى من المقاعد المجهزة لجمهور "ندوة المسيري"، لعلي أتمكن من طرح سؤال وأتحدث معه، وبمجرد أن انتهت الندوة قفزت إلى جواره وعرفته بأنني طالب في قسم اللغة العبرية شغوف بدراسة الإسرائيليات ودائما ما أجد ضالتي في مؤلفاته وعلى رأسها موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية"، وسألته سؤال كثيرا ما أثار حيرتي: كيف تثنى لك تأليف كل هذه الكتب عن اليهود والصهيونية وأنت لا تعرف العبرية، بل إنك في الأساس أستاذ للأدب الإنجليزي؟ ابتسم الدكتور المسيري ابتسامة غمرتني بالمحبة وربط على كتفي وقال لي إنه بالفعل كان قد بدأ في تعلم اللغة العبرية عام 1972 مع بدايات تخصصه في الصهيونية، لكنه لاحظ أن اللغة العبرية هي لغة الدولة الصهيونية، وأنها مهمة للغاية لدراسة التجمع الصهيوني من الداخل، أما هو فركز على أن يضع إسرائيل في سياق الجماعات اليهودية في العالم، وأن لغة غالبية يهود العالم هي الإنجليزية، وأنه احتاج في دراسة تاريخ الجماعات اليهودية عبر التاريخ للغات أساسية هي الإنجليزية والفرنسية واللاتينية واليديشية فتوقف عن دراسة العبرية، ونصحني أن استمر في دراسة اللغة العبرية. وقال لي، وعينيه تلمعان، ونظرات الحماس كانت كالسهام التي يرميها لتصيب عقلي:
اتعلم عبري وادرس المجتمع الصهيوني من الداخل فالقضية طويلة
مات الدكتور المسيري عام 2008، ولم يحالفني الحظ أن ألقاه ثانية، ولكنه لم يفارقني بكتاباته ومؤلفاته الشاملة، وأصبحت خريج حديث، وبدأت العمل كصحفي متخصص في الإسرائيليات، متمسكا بما قاله لي الدكتور المسيري بأن تكون اللغة العبرية مدخلي لفهم المجتمع الإسرائيلي من الداخل وتفنيد مزاعم الكيان الصهيوني الذي زُرع في منطقتنا العربية، وأدركت أن المسيري رسخ أن مواجهة إسرائيل فكريا لا تقل عن مواجهتها عسكريا.
توالت السنوات وأنا أحافظ على وصية الدكتور المسيري بدراسة المجتمع الإسرائيلي من الداخل، والتحقت بالعمل بقطاع الإنتاج الوثائقي التابع لشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، وإذ أفاجأ بتكليفي بإعداد فيلما وثائقيا عن المسيري وموسوعته الشهيرة التي كانت أول مصدر في بحثي الأول بالكلية، يا لها من مصادفة في رحلتي مع المنقب الأول عن الصهيونية في وطننا العربي، وانتابتني الحيرة من أين أبدأ فهو رجل موسوعي شامل، فكرة متمادي لأكثر من مجال، ولكن سرعان ما تبددت حيرتي بسبب الصراع الدائر الآن في قطاع غزة، فكل ما تحاول إسرائيل فعله من تمدد استيطاني وطرد للفلسطينيين تنبأ به الدكتور المسيري وذكره تفصيليا، فكانت هي نقطة البداية.
في ظل تصعيد متجدد بين قوات الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية، كان الباعث الأول له، في العقد الأخير، نمو الحركات الصهيونية الدينية ممثلة في أحزاب دينية يمينية متطرفة، وهنا يظهر جليا الدور المصري في مساندة الأشقاء الفلسطينيين، ليس فقط عن طريق خوض حروب متتالية منذ بداية الصراع العربي- الإسرائيلي عام 1948م، أو عن طريق الدعم السياسي والدبلوماسي للقضية، بل أيضا على الصعيد الفكري، فكان المفكر المصري الدكتور عبدالوهاب المسيري هو أول من تخصص في دراسة الفكر الصهيوني عربيا، متنبأً منذ نهاية الستينات بأن الفكر الصهيوني المتطرف هو الدستور الفكري لسياسات الاحتلال الإسرائيلي، وقرر منذ اللحظات الأولى مقاومة هذا الفكر ومحاربته واصفا إياه بأنه كـ"الحرباء" يتلون حسب المحيط الموجود فيه ويغير ديباجته حسب الظروف حتى يكتسب الشرعية. وظل الدكتور المسيري طوال 40 عاما باحثا ومنقبا في الجذور الصهيونية وتطورها إلى أن توج كتاباته عن هذه الحركة المتطرفة بمؤلفه الأهم في هذا المجال وهو موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية"، التي صدرت في نهاية التسعينيات من القرن الماضي في ثماني أجزاء، ومنذ ذلك الحين وهي المصدر الأهم لكل باحث عربي أو سياسي مهتم بفهم الاحتلال الإسرائيلي، العدو الأول للعرب، وإدراك طرق تفكيره وأساليبه العدائية.
تطرق الفيلم الوثائقي "المسيري.. مفكر ضد الصهيونية" الطفل عبدالوهاب المسيري ونشأة الكيان الصهيوني في الأربعينيات في خطين متوازيين مرورا بالعدوان الثلاثي على مصر عندما كان المسيري طالبا في جامعة الإسكندرية ثم حرب يونيو 1967 عندما كان المسيري يدرس في الولايات المتحدة لنيل درجة الماجستير وبداية شغفه بالحركة الصهيونية، إلى أن يتقاطعان في السبعينيات عندما تخصص المسيري في الصهيونية عندما عمل بوحدة الدراسات الصهيونية بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية بتكليف من الأستاذ محمد حسنيين هيكل، وبعد أن حقق فيه الجيش المصري انتصار السادس من أكتوبر المجيد عام 1973، عكف المسيري على مواجهة إسرائيل فكريا وصولا إلى نشر موسوعة "اليهود واليهودية والصهيونية"
في التسعينيات، ثم اهتمامه بأدب الطفل والذي أراد من خلاله الاهتمام بإنشاء جيل على درجة كبيرة من الوعي بجذوره وعدوه الأول.
ربما يكون هذا الفيلم الوثائقي دربا في رحلتي مع الدكتور المسيري، ولكنه ليس بالتأكيد نهاية الرحلة، فمازالت القضية الفلسطينية حاضرة ومازالت أفكار المسيري ورؤيته سلاحا لكل من يريد مواجهة المزاعم الصهيونية ودحضها.